اكتشاف القائد
اكتشاف القائد وتنمية موهبته
القيادة هي فنُّ معاملة الطبيعة البشريَّة، والتأثير في السلوك البشريِّ، وتوجيهه نحو هدفٍ معيَّن، وبطريقةٍ تضمن بها طاعته وثقته واحترامه.
إنَّ اكتشاف الموهوبين قياديًّا- أو قل إذا شئت تربويًّا ودعويًّا وسياسيّا- يحتاج ابتداءً إلى قيادة موهوبةٍ قياديًّا؛ لتتولَّى القيام بمثل هذه المهمَّة النوعيَّة، وفي الأمثال:(فاقد الشيء لا يعطيه).
ولتحقيق هذا الاكتشاف لا بدَّ من أن تكون القيادة أو الجهة التي سيناط بها ويوكل إليها الأمر، حريصةٌ على اكتشاف الموهوبين، فقد تكون هنالك قياداتٌ أو جهاتٌ غير حريصةٍ أساسًا على الموهوبين، فضلًا عن اكتشافهم؛ لأسبابٍ وبواعث وخلفيَّاتٍ لا تقع ضمن دائرة السؤال المطروح، ممَّا يؤدِّي إلى إجهاض كلِّ خطوةٍ في هذا الاتجاه.
لا بدَّ قبل عمليَّة البحث والاستقصاء والاكتشاف من تحديد المواصفات التي يجب أن تتوفَّر في القيادة الموهوبة أو الأشخاص الموهوبين قياديًّا؛ ليجري البحث ضمن دائرة المعلوم لا المجهول، وليتحقَّق الهدف المنشود والأمل المعقود.
أوَّلًا: صفاتٌ لازمةٌ في شخصيَّة القائد من الداخل:
1- الصفاء النفسيُّ والعبق الروحيّ: إنَّ من أهمِّ ما ينبغي أن يتمتَّع به القائد المسلم صفاء النفس وعبق الروح، وعليه أن يستشعر ثقل الأمانة التي يحملها، وأنَّه أولى الناس بتأديتها والتفاعل معها، كما ينبغي ألا تصرفه مسئوليَّاته القياديَّة وواجباته العامَّة، مهما كثرت وتضخَّمت، عن الاهتمام بنفسه والانشغال بعيوبه وتمحيص ذنوبه، ولا يخدعنَّه ما يقوم به من أعمالٍ متلاحقات، فقد تَفْقِد هذه الأعمال عنصر “الإخلاص”، وتصبح عند الله رمادًا تذروه الرياح، فالله لا يقبل إلا ما زكا وطاب.
2- الصحَّة البدنيَّة والقوَّة الجسديَّة: وعلى القائد ألا يهمل شأن صحَّته وجسمه، فالمؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وتكاليف الدعوة وأعباء المسئولية لا يقوى على النهوض بها ضعاف الأجسام سقام الأبدان، إنَّ مركز القيادة مركز التفكير الدائب، والعمل المتواصل، والجهاد المستمرّ، وهذه القدرات مرتبطةٌ ارتباطًا عصبيًّا بمراكزها العضويَّة من الجسم، وما لم تكن الأعضاء والحواسُّ والأجهزة كلُّها بحالةٍ سليمةٍ ونشيطة، فستفقد القدرة على إمداد الإنسان بحاجاته ومتطلَّباته الحيويَّة الصحِّيَّة.
3- القدرات العقليَّة والأغذية الفكريَّة: والعقل- كذلك- بحاجةٍ إلى الموادِّ الغذائيِّة التي تحقِّق نموَّه ونضجه واتزانه.
والأغذية الفكريَّة بالنسبة للقائد يجب أن تكون منوَّعة، فلا يقولنَّ قائلٌ إنَّني أكتفي بالثقافة الإسلاميَّة من دون سائر الثقافات، وإذا كان هذا المنطق مقبولًا في الماضي فإنه مرفوضٌ اليوم، وقد اختلطت الصيحات، وتباينت الآراء والمفاهيم، وتعدَّدت الثقافات، وما لم يكن القائد على مستوى حَسَنٍ من الثقافة والاطلاع، مواكبًا الحياة السياسيَّة وأحداثها اليوميَّة، فقد لا يتمكَّن من مواجهة المسئوليَّة، ومغالبة التحدِّيات، وقيادة الركب قيادةً رشيدةً واعية.
ثانيًا: صفاتٌ لازمةٌ للقيادة:
1- معرفة الدعوة: ولمعرفة القائد لدعوته تمامًا يلزم أن يكون مُلمًّا إلمامًا جيِّدًا بشئونها الفكريَّة والتوجيهيَّة والتنظيميَّة، مواكبًا لنشاطها، مطَّلعًا على أعمالها وتصرُّفاتها.
وضمان نجاح القيادة إنَّما يكون في تلاحمها مع القاعدة وعدم انفصالها عن الموكب المتحرك أو انعزالها في صومعة، بل إنَّ المسئوليَّة القياديَّة لتتطلَّب من صاحبها الاتصال الدائم بالجنود، والتعرُّف على آرائهم ومشكلاتهم، وفي ذلك ما فيه من اطِّلاع ودراسةٍ تجريبيَّةٍ مفيدةٍ للجانبين.
2- معرفة النفس: ومن واجب القائد أن يعرف مواطن القوَّة والضعف في نفسه، والقائد الذي لا يعرف قدراته وإمكاناته لا يمكن أن يكون قائدًا ناجحًا، بل ربما جرَّ على دعوته الكوارث والأضرار؛ ولذلك يجب:
أ – أن يتعرَّف إلى نقاط الضعف لديه ويعمل على تقويتها.
ب – أن يكتشف مواطن القوَّة عنده ويسعى لدفعها وتنميتها.
ج – أن يحرص على تنمية الثقافة العامَّة، والاطِّلاع على مختلف الموضوعات، والآراء، والأفكار السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصادية… إلخ.
د – أن يُعنَى بدراسة شخصيَّات القادة المسلمين وغيرهم، والتعرُّف على طرق وأساليب قياداتهم، وأسباب وعوامل نجاحهم أو فشلهم.
3- الرعاية الساهرة: وقيام القائد بملاحظة الأفراد، وتعرُّفه عليهم جيِّدا، واطِّلاعه على أحوالهم وأوضاعهم الخاصَّة والعامة، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، والعمل على حلِّ مشكلاتهم، كلُّ هذا ممَّا يساعد على ضبطهم، وكسب ثقتهم، وبالتالي على حسن الاستفادة من طاقاتهم.
4- القدوة الحسنة: والأفراد ينظرون دائمًا ويتطلَّعون إلى قادتهم كأمثلةٍ حسنةٍ يقتدون بها ويَحْذون حذوها.
فسلوك القائد ونشاطه وحيويَّته وأخلاقه وأقواله وأعماله ذات أثرٍ فعليٍّ على الجماعة بأكملها، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان نِعْمَ القدوة لصحابته: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا 21) (الأحزاب)، وصحابته رضوان الله عليهم كانوا أئمَّةً صالحين، وهداةً مهتدين، مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة.
5- النظر الثاقب: وقدرة القائد على إجراء تقديرٍ سريعٍ وسليمٍ لأيِّ موقف، والوصول إلى قرارٍ حاسمٍ في شتَّى الأحوال والظروف، من شأنه أن يُكسِبه ثقة الأفراد وتقديرهم.
أمَّا التردُّد والغموض والحيرة والارتباك فمن شأنه أن يُوجِد الفوضى، ويُضعِف الثقة، ويُفقِد الانضباط.
6- الإرادة القويَّة: وقوَّة الإرادة ركنٌ من أركان الشخصيَّة القياديَّة، بها تُذَلَّل الصعاب، وبها تُحَلُّ المشكلات، وبها تُجتاز العقبات، وقادة الإسلام أحوج ما يكونون في هذا العصر إلى إراداتٍ فولاذيَّةٍ تهزأ بالمحن والخطوب.
7- الجاذبيَّة الفطريَّة: وهي صفةٌ طبيعيَّةٌ إن وُجِدَت في القائد استطاع أن يجذب القلوب بدون تكلِّف، وهذا العنصر من أقوى العناصر التي تتكوَّن منها الشخصيَّة القياديَّة.
8- التفاؤل: ويعتبر التفاؤل من الأمور الجوهريَّة اللازمة للشخصيَّة القياديَّة؛ ولذا يجدر بالقائد أن يكون دائمًا في تفاؤل، متطلِّعًا أبدًا بأملٍ وانشراح، دون أن يصرفه ذلك عن التحسُّب لما تخبِّئه الأيَّام من مفاجآت.
إنَّ اليأس عاملٌ خطيرٌ من عوامل الانهيار والدمار في حياة الأفراد والجماعات، ولا يجوز أن يُسمَّى (اليأسُ) حكمة، و(الأملُ) خفَّةً وتهوُّرا.
كما لا يجوز أن يخضع الأمل لجوامح العاطفة وطفراتها، وإنَّما ينبغي أن يتلازم مع العقل والتقدير.
والقيادة- طليعة الركب ورأس القافلة- وتأثيرها على الصفِّ بليغٌ وعميق، فإن هي تخاذلت ويَئِست عرَّضت الصفَّ للتخاذل واليأس، وإن هي صمدت أمام المُلِمَّات وثبتت في وجه التحدِّيات، أشاعت في نفوس الأفراد والجنود روح الأمل والإقدام.
فكيف والإسلام اليوم يخوض معركة مصيرٍ في الداخل والخارج وعلى كافَّة المستويات ومخلف الجبهات؟ فلا يجوز بحالٍ الفرار من الزحف والتولِّي عنه، وإنَّما ينبغي الصمود والإصرار؛ الصمود في المعركة، والإصرار على مجاهدة الباطل بكلِّ مقوِّمات الجهاد: (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: من الآية 39).
ثالثًا: كيفيَّة اكتشاف الموهوبين قياديّا:
لا بدَّ وأن يكون معلومًا بأنَّ الموهوبين قياديًّا لا يمكن أن يكونوا مغمورين أو مختفين عن ساحة العمل؛ لأنَّ من شأن المواهب التي يملكونها أن تدفع بهم إلى السطح والوجاهة بشكلٍ أو بآخر.
إنَّ الموهوبين قياديًّا هم الذين يتَّصفون بصفاتٍ خُلُقيَّةٍ متميِّزة، فإذا ما قُدِّر لهم أن يتولَّوا مسئوليَّاتٍ ما، نمت مواهبهم أكثر فأكثر.
من هنا كان من السهولة بمكانٍ اكتشاف أصحاب المواهب القياديَّة، من خلال مهمَّاتٍ يمكن أن يُكلَّفوا بها، على أكثر من صعيد، من خلال تنظيم نشاط، أو تقويم عمل، أو تشخيص مرض، أو مواجهة مشكلة، ومن خلال القدرة على التركيز والاستيعاب أو الفطنة والحكمة وبُعْد النظر، وحسن الخطاب… إلخ.
أما الأشخاص العاديُّون وغير المؤهَّلين (خُلُقيّا)، فيمكن أن يتمَّ تأهيلهم (اكتسابيًّا)، ويصعب جدًّا بلوغهم مستويات الآخرين مهما كانت العناية بهم كبيرة.
وفي كلِّ الأحوال تبقى مسئوليَّة القيادة في وضع اكتشاف المواهب القياديَّة من أولويَّاتها أوَّلا، ثمَّ تستشرف وجود هذه المواهب، فتتبنَّاها وترعاها، وتربِّيها على أسسٍ وقواعد، وتغرس فيها الصفات اللازمة لها، سواءً الشخصيَّة أم العامَّة.
المصدر: موقع بصائر